طالب بجامعة جورجتاون ينقذ مدرسة لتعليم القرآن كانت سببًا في تغيير حياته
سعيًا لتحقيق أمنية والده الأخيرة وهو على فراش الموت بأن يصير ابنه من حفظة القرآن الكريم، التحق عثمان كامارا البالغ من العمر حينئذ تسع سنوات بمدرسة القرآن للبنين في قريته الصغيرة فاراتو الواقعة في غامبيا، فكان هذا القرار بمثابة إشارة انطلاق لسلسلة من الأحداث اللافتة التي ستغير مسار حياة عثمان ومعها مستقبل هذه المدرسة المتواضعة إلى الأبد.
تقع القرية في قلب أراضي الماندينكا، وهي إحدى أكبر الجماعات الإثنية-اللغوية في الغرب الإفريقي وينحدر أبناؤها من إمبراطورية مالي العظيمة، ولم يكن في القرية مدرسة لتعليم القرآن، ومن ثمّ كان لزامًا على عثمان ورفاقه في الدراسة قبل بدء الانتظام في المدرسة أن يرفعوا بنيانها من الحجر الطيني بأيديهم وسواعدهم ليضعوا بذلك حجر الأساس لمسيرة تعليمية تنقّل خلالها عثمان من محطة إلى أخرى وصولاً إلى جامعة جورجتاون في قطر.
أتم عثمان حفظ القرآن الكريم في عامين ونصف العام، وانضم بعدها إلى أشقائه في المدرسة المحلية، إلا أن دراسته للقرآن ظلت هي رفيق دربه صاحب الدور الحاسم في مسيرة تعلمه؛ فقبل عام واحد فقط من إكماله مرحلة التعليم الثانوي نظّم رجلٌ من أبناء المجتمع المحلي في غامبيا مسابقة طلابية لتلاوة القرآن الكريم، وكانت جائزتها التي نالها عثمان منحة دراسية كاملة الرسوم في معهد الدراسات الإسلامية للبنين الذي تديره وزارة التعليم في دولة قطر.
وبعد تخرجه في المعهد برز أمام عثمان تحدٍ آخر أصابه بالحيرة، ويتذكر ذلك قائلاً: “كنت قد أجدت العربية تحدثًا وكتابة، ولكنني كنت بحاجة لتحسين مهاراتي في الإنجليزية حتى ألتحق بالكلية.” وكان الحل الوحيد يتمثل في التحاقه ببرنامج الجسر الأكاديمي في مؤسسة قطر، غير أن هذا الحل اكتنفته إشكالية عبّر عنها تعبيرًا صريحًا حين قال: “لم يكن في استطاعتي سداد رسوم البرنامج”.
وكان عثمان على موعد مع انفراجة لهذه الضائقة سطع بريقها أمامه يومًا ما حينما فرغ من الصلاة في أحد المساجد وأدرك لدى خروجه أن رجلاً قطريًا قد انتعل حذاءه دون قصد؛ إذ كان الحذاءان متشابهين، فقادت هذه الواقعة وما أعقبها من ضحك وتجاذب لأطراف الحديث بين الرجلين إلى نقاش أعمق حول أحلام عثمان وتطلعاته التعليمية، وفي نهاية المطاف جاءه العرض السخي من الرجل القطري بسداد الرسوم الدراسية للفصل الأول في البرنامج. فانخرط عثمان في الدراسة بالبرنامج، وكان عمله الدؤوب ومثابرته وتفانيه مصدر إلهام حدا بآخرين إلى تقديم الدعم له طوال مسيرته حتى تمكن في النهاية من التقدم بطلب التحاق لجامعة جورجتاون في قطر وحصل على موافقة القبول بها.
ومع تحقق أحلامه الأكاديمية، لم ينس عثمان يومًا مدرسته الأولى التي كانت منطلق ذلك كله، وعقد العزم على تقديم العون اللازم لتجديد المدرسة وتحديثها بمجرد تخرجه والشروع في العمل. ولكن في نهاية العام 2018 نما إلى علمه أن المدرسة لن تصمد خلال موسم الأمطار، فأدرك أن الوقت لتقديم العون قد حان بالفعل، وبدأ يتواصل مع أصدقائه في حرم الجامعة بالدوحة وخارجها لتدارك الموقف، ويحكي عن ذلك قائلاً: “تمثلت خطتي في تدبير تمويل قدره 100 ألف ريال قطري لبناء مدرسة جديدة كليًا.”
استطاع عثمان أن يجمع 60 ألف ريال قطري من التبرعات الشخصية من أصدقائه، وكان المبلغ كافيًا جدًا للبدء في الأعمال الإنشائية. يقول عثمان: “سافرت إلى غامبيا في رمضان الماضي، وساعدت في إرساء الأساسات لتشييد المدرسة، وعند اكتمال البناء ستكون المدرسة مزودة بالكهرباء والصفوف اللازمة لاستيعاب مائتي طالب وطالبة، وصهريج صرف للمراحيض، ومضخة مياه للوضوء بالخارج.” ويأمل عثمان أن يتمكن من جمع المبلغ المتبقي حتى تضاف طوابق أخرى للبناء الخرساني المشيد حديثًا بغرض توسعته.
يتحدث عثمان عن وضع الطلاب في قريته قائلاً: “معظم الطلاب هناك من الأطفال والأيتام المحرومين الذين لا يستطيعون تحمل نفقات تعليم أفضل، وهذه المدرسة تمثل أملهم الوحيد. بُنيت المدرسة القديمة بالحجر الطيني، ولكننا نبنيها هذه المرة بالحجر الإسمنتي الذي أرجو أن يبقى البناء قائمًا به لفترة طويلة.” ومع اقتراب البناء من اكتماله، تمتلئ نفوس الطلاب أملاً وتطلعًا، “إنهم جميعًا ممتنون لرؤية أحد خريجي مدرستهم يعود إليها من جديد ويساعد في تحسين ظروف بيئتهم التعليمية.” ويتابع عثمان مضيفًا أن المعلمين ممتنين كذلك؛ “فلم يكن الوقت في صالحهم، وكانوا يخشون ألا يمد أحد يد العون إليهم.”
سيكمل عثمان مسيرة تعليمه الجامعي هذا العام بتخرجه في جامعة جورجتاون في قطر، ويحدوه الأمل في الارتقاء بدوره التطوعي الحالي مع مؤسسة “التعليم فوق الجميع” بوصفه مناصرًا لقضايا الشباب في مجال التعليم إلى آفاق جديدة. يقول عثمان: “تعلمت في جورجتاون كيف أكون قائدًا وكيف أثمّن التعليم وأقدّر قيمته، ما يؤجج رغبتي في رد الجميل لمجتمعي. وتعلمت أيضًا ممارسة التفكير الناقد وابتكار أفكار خلاقة غير نمطية. ومن خلال صفوف الدراسات الإسلامية تعلمت الكثير والكثير عن ثراء وغنى الإسلام والتاريخ الإسلامي، وتغيرت نظرتي للعالم بطرق متعددة.” حاملاً في جعبته ما خاضه من تجارب وخبرات جديدة وما اكتسبه من علم ومعرفة، تحدو عثمان رغبة في مواصلة تشييد المدارس في غامبيا لكي تتاح للآخرين فرص الحصول على تعليم يغير حياتهم للأفضل، ويتسنى لهم أن يحذوا حذوه أيضًا.